زياد دلول: الابتهاج المطلق بالفضاء المَعيش
لم يصل تصوير الرسام السوري زياد دلول إلى هذا المستوى من الفيض في اللامادي والمجرَّد، إلا بعد عبوره مراحل انتقالية من خلال جهد ذاتي في العمل والممارسة. وما فضاء لوحاته وتصويره على الورق إلا فضاء للضوء والمادة؛ فالتوتر والتناسق يولدان من تجاورهما، من تعاكسهما، من ذوبانهما الشكلي ومن كثافة تضادهما.
إنها مادةٌ - جسدٌ، زيتية ومخملية، وفضاء الحامل مزروع ببقع لونٍ، بلمسات طويلة، وبمنحنيات تمنح توحيداً هائلاً للسطح التصويري من دون اللجوء إلى سُلَّمٍ تفضيلي. فضاء مشحون بالخصوبة الحية للضوء-المادة حيث يُعلِّقُ الحلم الداخلي ذاكرة الصور.
لا تمثّلُ الطبيعة الصامتة أو المنظر في أعمال دلول إلا ما تستدعيه الذاكرة: الحلم، الذكرى، الصمت المرسوم، أو عوالم الرغبة في تبعاتها المشرقة وسلاستها الغامضة، في تموجات الضباب، وفي الشفافيات التي تحطم البناء للوصول إلى الجوهري.
جاء دلول من الشرق ولكنه عرف كيف يجد مناخه الانفعالي في مراحل عبوره من بلده الأصل، سورية، إلى الجزائر، ثم باريس حيث يعيش ويعمل منذ العام 1984. لقد عمل - إضافة إلى المشاغل والمدارس - على لغة اكتسبها في العزلة الخلاقة الفاعلة لحقله الفكري. لا تمثيل للطبيعة، إنَّما ارهاصات على حدود المرئي والمتخيَّل في هسيسِ العناصر والأشياء، وفي الحضور الدافئ للحياة.
«المنظر من أين - من أيِّ طريقٍ؟ ولكن أهناك حقاً طريق؟ المنظر الذي أتيت منه للقائكم يجهله معظمكم...» جملة لبول سيلان يمكن أن توضح منهج زياد دلول. حتى مفهوم المنظر الداخلي لا يتطابق مع هذا النهج، إنه على الغالب الإحساس بالعناصر، بالشجرة، بالأرض، بالهواء وبالظل. أحياناً نلحظ ترسيماً لقمّة مرتفعٍ أو فاصلاً بين الأشياء، ولكن يبقى الضوء مسيطراً حيث ينير الفضاء - الضوء آتياً من حيث لا ندري ولكنه دائماً صيرورة وحضور، حضور عاتم أو حضور لوني. ضوءٌ متحدٌ بالمادة من خلال حوارٍ توافقي أو تحليلي يحيِّد التجريد تزكية للتعبير.
ومع هذا يمكن اعتبار عمل دلول قريباً من «المنظر التجريدي» وهو يفترض مع ذلك لا رسم مناظر الهواء الطلق ولكن متعة تحليلها في تطوير ايقاعاتها وألوانها وانطباعاتها. ومع أنّ هذا العمل ينهل في عمقه من الطبيعة، إلا أنه في روحه يبقى شاعرياً مفصحة عن ذلك أشكاله ذاتُها.
وُلِد زياد دلول عام 1953 في مدينة السويداء جنوب سورية، في بيئة جبلية، ثم عرف الصحراء خلال اقامته في الجزائر قبل أن يقيم ويعمل في باريس. ولكن ذاكرته حملت دائماً آثار أصول نشأته وتنقلاته وعلاماتها ومن دون ضجيج وبلا صراخ، يعكس فنُّه ذاكرة هادئة؛ وإذا كانت اللمسة التصويرية مشحونة بالطاقة فإنَّ الأشكال تحافظ على رصانتها، وهي تنمو في اختبار متواصل وفي صرامة مطلقة من دون أيّ تنازل أمام الشائع الدّارج.
يسعى دلول أن يعطي لمواضيعه الأساسية - المنظر، الطبيعة الصامتة، وأحياناً الأشخاص، أي العالم الحـــي – ديمـــومـــة تطرد ما هو سردي للاحتفاظ بما هو بنيويّ. ومن خلال التصاقه بالجزء يقترح سبر حيوية الكُلّ. إن تصـــويره لا يروي حكاية بل يحمل تخيلاً آسراً، وهو غالباً يَفتن أكثر مما يُقلق. ويختصر الإنسان في ظهور عابر أو في ظهور متوَهم. والأمر سواء بالنسبة الى من ينظر إلى هذه الأعمال كما بالنسبة الى المصوِّر نفسه، فإن وجود اللوحة لا معنى له إلا إذا حضر الإنسان بصورة ما، إنه هو الذي صنعها وإنها خُلقت أصلاً لأجله.
يعلن دلول سعادته البسيطة بأنه يرى في وسط الفوضى وفي زمان يقنع فنانون كثيرون بما هو زائل وبما هو باهر. إنه يتعلق بمحاورة الأشياء البسيطة، بالمتابعة بدأبٍ مستمر، بالتوازن، وبالزمن. في لوحاته كما في أعماله الورقية بين (2000-2001)، «تأويلات الظلال»، «مذبح شجرات الكستناء» أو «الغابة الرطبة»، للتصوير رائحة الأحراج والتراب المبلل، التصوير أجسام قابلة للمسِّ حيث «الضوء الأبيض» ينزلق في فجوات الندى، وحيث المضيء - المظلم يزيد من لغز «درب الشفق». وحيث المغرة المطفأة أو المشبعة، والبني اللامع، والكستنائي الداكن، ألوان تبدو هاربة أمام قدوم نذير الليل المتبدل على لَيليّة «نوكتورن» ذات ستائر فاحمة تنسدل على صدوع بعيدة وعلى تجاعيد تستحم في اضاءات الفجر. (...).
السبت 02 مايو 2009, 5:10 am
